اعتدى بحارة ثلاثة إنجليز على مواطن مصرى بالضرب المبرح، فتدخل أعرابى لإنقاذه من بين أيديهم، لكن الثلاثة لم يعجبهم الحال، فاعتدوا على الأعرابى بحرابهم، ليرد بهراوته عليهم ليشج رأس أحدهم، وفروا من أمامه لكنه طاردهم، حتى اختفوا فى الشوارع، حسبما يذكر أحمد شفيق باشا، رئيس ديوان الخديو عباس الثانى، فى الجزء الثانى من مذكراته «مذكراتى فى نصف قرن».
للوهلة الأولى يبدو الحدث كمشاجرة عادية وقعت فى 8 فبراير، مثل هذا اليوم، 1895، أى بعد 13 عاما من الاحتلال الإنجليزى لمصر، وكان أطرافها ثلاثة من الإنجليز الذين يحتلون مصر، ومصريين ينتمون إلى «الطبقة السافلة» بحسب وصف المعتمد البريطانى فى مصر «اللورد كرومر»، ويتحمل وصف «السافلة» هنا أكثر من معنى، من بينها المعنى القبيح للكلمة، أو الطبقة الدنيا «بضم الدال» أوالفقيرة، وفى كل الأحوال، نحن أمام مشاجرة تكشف كيف كانت طبيعة الاحتلال الإنجليزى مع المصريين، وكيف كان تعامله إزاء أى تصرف يقدم عليه مواطن مصرى نحو رجاله.
وحسب رواية شفيق باشا، كان البحارة الثلاثة يتنزهون فى عربة جهة عمود السوارى فى منطقة باب عمر باشا بالإسكندرية، ووصلوا بالقرب من منازل المومسات، فقابلهم أحد خدام تلك المنازل، وخاطبهم بما يخاطب أمثاله، ويبدو من تسلسل رواية شفيق باشا أن هذا الخادم تحدث بلغته المعهودة كخادم مومسات، مما أغضب البحارة الثلاثة، فجرد أحدهم «شيشا» كان معه، وأراد طعن هذا الخادم الذى فر مسرعا ليدخل بيت إحدى المومسات.
نزل الإنجليزى من العربة، وقرع باب منزل المومس بشدة، مما أصاب الذعر صاحبته، فطردت الشخص الهارب، وأمام البيت دارت معركة بالملاكمة بين الاثنين، استنجد الإنجليزى فيها برفيقيه، وانهال الثلاثة ضربا على هذا الشخص الذى لم يجد وسيلة حماية سوى الاستغاثة، فتجمع عدد من المارين حوله، حتى بادر أحدهم، وهو أعرابى قوى البنية، فاقترب من الثلاثة الإنجليز، ودفعهم بعيدا، مما أدى إلى تحول المعركة بينه وبينهم، ولأنه قوى وجرىء جرحهم وهزمهم ثم لاذ بالفرار.
تلقى قنصل إنجلترا فى الإسكندرية أخبار الحادث، فأبلغه للمحافظ الذى أرسل هرفى باشا، حكمدار الإسكندرية الإنجليزى، إلى مكان الحدث، ويذكر شفيق باشا أن هرفى بالغ فى الاهتمام بالمسألة، واستصحب معه قوة من البوليس وقبض على نحو 60 شخصا، ولم يكتف القنصل بهذا الاهتمام بل بعث بتقرير إلى قنصل إنجلترا فى القاهرة يصور فيه الحادث بصورة مزعجة جدا، دفعت اللورد كرومر إلى القول لبعض محدثيه: «إننى أشعر بانبثاث روح التعصب الدينى فى الطبقة السافلة من المصريين، وهذا يُخشى منه»، وطلب فى الحال السير سكوت المستشار القضائى، وأظهر له أهمية الحادثة، وأنه ربما يقرر تشكيل محكمة عسكرية مخصوصة لمحاكمة المعتدين، وبالطبع فإن المعتدين فى نظره هم المصريون.
يكشف شفيق باشا أن المستشار القضائى أبلغ ما سمعه من اللورد كرومر إلى ناظر الحقانية، فارتبك وأخذ يفكر فى كيفية تشكيل هذه المحكمة، وامتدت الحالة إلى نظارة الخارجية، كما تلقى نوبار باشا رئيس الوزراء تقريرا بها، فأوصى بالاهتمام، فى نفس الوقت الذى انشغلت فيه نظارة الداخلية ببحث الموضوع، وفيما يتسابق الكل بالاهتمام، انتهى محافظ الإسكندرية من التحقيقات، وأرسل الأوراق والمتهمين إلى النيابة العامة، وتحدد يوما لمحاكمتهم، غير أنه تصادف فى نفس يوم المحاكمة حضور السير سكوت المستشار القضائى، ومعه النائب العمومى مسيو لوجريل، لمراقبة الإجراءات القضائية، فقررا وقفها وأمرا باستئناف التحقيقات على يد رئيس النيابة، الذى أنهى التحقيقات إلى نفس النتائج السابق التوصل إليها.
يصف شفيق باشا القصة بأنها «مشاجرة بسيطة»، ويتعجب من تهويل الإنجليز لها واعتبارها أثرا من آثار التعصب الدينى، وحدث إنذارا للأوربيين بشر عواقبها، وفى 12 فبراير انعقدت جلسة المحاكمة، أى أنها انعقدت بعد 4 أيام فقط من وقوعها، وعلينا أن نتخيل كيف مضت التحقيقات بهذه السرعة فى هذه الأيام القليلة، أما المحاكمة فكان رئيس المحكمة فيها مصطفى بك واصف، وحضرها السير سكوت ومسيو لوجريل، و4 من ضباط البحرية الإنجليزية، وضابط فى جيش الاحتلال، وهرفى باشا، ومسيو تريفس رئيس البوليس السرى، وانتهت بالحكم بسجن 7 أشخاص بين 3 سنوات و6 أشهر، وكان بين المتهمين بعض الأحداث، واستندت المحكمة فى تسويغ هذه الشدة إلى ظروف التجمهر ضد المجنى عليهم «الإنجليز»، واستأنف المتهمون، لكن المحكمة أيدته يوم 18 فبراير، أى أننا أمام حدث استغرق مدة 10 أيام فقط، من 8 فبراير إلى 18 منه.
المصدر : اليوم السابع